مجلة ريحانة الالكترونية

ارتفاع أصوات البكاء والحنين بالمدينة

اليوم الثاني من ربيع الاول هو يوم وصول سبايا الامام الحسين (عليه السلام) إلى المدينة. قال بشير بن حذلم: لمّا قربنا من المدينة، نزل علي بن الحسين علیه السلام وحطَّ رحله وضرب فسطاطه، وأنزل نساءه« وقال: «يا بشير، رحم الله أباك لقد كان شاعراً، فهل تقدر على شيء منه؟» قلت: بلى يابن رسول الله، إنّي لشاعر.

فقال عليه السلام: «ادخل المدينة« وانع أبا عبد الله عليه السلام». قال بشير: فركبت فرسي حتّى دخلت المدينة« فلمّا بلغت مسجد النّبي صلّى الله عليه وآله رفعت صوتي بالبكاء، وأنشأت:

يا أهل يثربَ لا مُقَام لكم بها*** قُتل الحسينُ فأدمعي مدرار

الجسم منه بكربلاء مضرّج ***والرأس منه على القناة يُدار

وقلت: هذا علي بن الحسين عليهما السلام مع عمّاته وأخواته قد حلّوا بساحتكم وأنا رسوله إليكم اُعرّفكم مكانه، فخرج النّاس يهرعون، ولّم تبقَ مخدَّرة إلاّ برزت، تدعو بالويل والثبور، وضجَّت المدينة بالبكاء، فلم يرَ باكٍ أكثر من ذلك اليوم، واجتمعوا على زين العابدين عليه السلام يعزّونه، فخرج من الفسطاط بيده خرقة يمسح بها دموعه، وخلفه مولى معه كرسي، فجلس عليه، وهو لا يتمالك من العبرة، وارتفعت الأصوات بالبكاء والحنين.

فأومأ إلى النّاس أنْ اسكتوا، فلمّا سكتت فورتهم قال عليه السّلام: (الحمدلله ربِّ العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، بارئ الخلائق أجمعين، الذي بعُد فارتفع في السّماوات العلا، وقرُب فشهد النّجوى، نحمده على عظائم الاُمور، وفجائع الدهور، وألم الفجائع، ومضاضة اللواذع، وجليل الرزء، وعظيم المصائب الفاظعة الكاظة الفادحة الجائحة. أيّها القوم، إنّ الله تعالى وله الحمد ابتلانا بمصائب جليلة، وثلمة في الإسلام عظيمة، قُتل أبو عبد الله الحسين عليه السلام وعترته، وسُبيت نساؤه وصبيته، وداروا برأسه في البلدان، من فوق عامل السّنان، وهذه الرزيّة التي لا مثلها رزيّة.

أيّها النّاس، فأيّ رجالات منكم يسرّون بعد قتله؟ أم أيّ فؤاد لا يحزن من أجله؟ أم أيّة عين منكم تحبس دمعها، وتضنُّ عن انهمالها؟ فلقد بكت السّبع الشداد لقتله، وبكت البحار بأمواجها، والسّماوات بأركانها، والأرض بأرجائها، والأشجار بأغصانها، والحيتان في لجج البحار، الملائكة المقرّبون، وأهل السّماوات أجمعون.

أيّها النّاس، أيّ قلب لا ينصدع لقتله؟ أم أيّ فؤاد لا يحنّ إليه؟ أم أيّ سمع يسمع بهذه الثلمة التي ثلمت في الإسلام ولا يصمّ؟

أيّها النّاس، أصبحنا مشرّدين مطرودين مذودين شاسعين عن الأمصار، كأنّنا أولاد ترك وكابل، من غير جرم اجترمناه، ولا مكروه ارتكبناه، ولا ثلمة في الإسلام ثلمناها. ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين، إنّ هذا إلاّ اختلاق، والله لو أنّ النّبيّ تقدّم إليهم في قتالنا كما تقدّم إليهم في الوصيّة بنا لما زادوا على ما فعلوا بنا، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون، من مصيبة ما أعظمها وأفجعها وأكظّها وأفظّها وأمرّها وأفدحها، فعند الله نحتسب ما أصابنا، وما بلغ بنا، فإنّه عزيز ذو انتقام«.

فقام إليه صوحان بن صعصعة بن صوحان العبدي، وكان زَمِناً(1) واعتذر بما عنده من زمانة رجلَيه.

فأجابه عليه السّلام بقبول عذره وحُسن الظن فيه، وشكر له وترحّم على أبيه.

ثمّ دخل زين العابدين عليه السلام المدينة بأهله وعياله. (2)

وجاء إليه إبراهيم بن طلحة بن عبيد الله وقال: مَن الغالب؟ فقال (عليه السّلام): «إذا دخل وقت إلى الصلاة فأذّن وأقم، تعرف الغالب».(3)

فأمّا اُمّ كلثوم فأنشأت تقول:

مدينة جَدّنا لا تقبلينا ***فبالحسرات والأحزان جينا

خرجنا منك بالأهلين طرّاً ***رجعنا لا رجال ولا بنينا

ثمّ أخذت زينب بنت أمير المؤمنين بعضادتي باب المسجد، وصاحت: يا جَدّاه، إنّي ناعية إليك أخي الحسين.

وصاحت سكينة: ياجَدّاه! إليك المشتكى ممّا جرى علينا، فوالله ما رأيت أقسى من يزيد، ولا رأيت كافراً ولا مشركاً شرّاً منه ولا أجفى وأغلظ، فلقد كان يقرع ثغر أبي بمخصرته، وهو يقول: كيف رأيت الضرب يا حسين.(4)

وأقمن حرائر الرسالة المأتم على سيّد الشهداء، ولبسن المسوح والسّواد، نائحات الليل والنّهار، والإمام السجّاد يعمل لهنّ الطعام.(5)

وفي حديث الامام الصادق عليه السلام: «ما اختضبت هاشميّة، ولا أدهنت، ولا اُجيل مرود في عين هاشميّة خمس حجج حتّى بعث المختار برأس عبيد الله بن زياد».(6)

وأما الرباب فبكت على أبي عبد الله حتّى جفّت دموعها، فأعلمتها بعض جواريها بأنّ السّويق يسيل الدمعة، فأمرت أنْ يُصنع لها السّويق لاستدرار الدموع.(7)

وأمّا علي بن الحسين عليهما السلام فانقطع عن النّاس؛ انحيازاً عن الفتن وتفرّغاً للعبادة والبكاء على أبيه، ولم يزل باكياً ليله ونهاره، فقال له بعض مواليه: إنّي أخاف عليك أنْ تكون من الهالكين.

فقال عليه السلام: «يا هذا، إنّما أشكو بثّي وحزني إلى الله، وأعلم من الله ما لا تعلمون، إنّ يعقوب كان نبيّاً، فغيّب الله عنه واحداً من أولاده وعنده اثنا عشر، وهو يعلم أنّه حيّ، فبكى عليه حتّى ابيضّت عيناه من الحزن، وإنّي نظرت إلى أبي وإخوتي وعمومتي وصحبي مقتولين حولي، فكيف ينقضي حزني؟! وإنّي لا أذكر مصرع بني فاطمة إلاّ خنقتني العبرة، وإذا نظرت إلى عمّاتي وأخواتي ذكرت فرارهنّ من خيمة إلى خيمة».(8)

ــــــــــ

1ـ ضَعُفَ مِنْ كِبَرٍ أَوْ مَرَضٍ.

2ـ اللهوف لابن طاووس ص ١١٦.

3ـ أمالي الشيخ الطوسي ص ٦٦.

4ـ رياض الأحزان ص ١٦٣.

5ـ محاسن البرقي ٢ ص ٤٢٠ ، باب الاطعام للمأتم.

6ـ مستدرك الوسائل ٢ ص ٢١٥ الباب الرابع والتسعون.

7ـ البحار ١٠ ص ٢٣٥ عن الكافي.

8ـ مقتل الحسين عليه السلام للسيد المقرّم: ج 1، ص 377.

شارك هذا المقال

التعليق 0

رأيك في الموضوع

تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة

من نحــن

مجلة ريحانة الالكترونية تعنى بجميع شؤون المرأة التي تناولها القرآن الكريم والسنة الشريفة. تعمل هذه المجلة تحت مجموعة شبكة رافد للتنمية الثقافية وهي مجموعة ثقافية تحت إشراف مؤسسة آل البيت (عليهم السلام).
علماً بأن عنوان هذه المجلة قد تم اقتباسه من الحديث الشريف عن أمير المؤمنين علي بن أبيطالب (عليه السلام): "المرأة ريحانة وليست بقهرمانة".(نهج البلاغة)

أحدث المقالات

اسألي الفقيه