مجلة ريحانة الالكترونية

الإعتكاف في الأديان والثقافات

الاِعتِكاف‌ وهو أحد الاعمال العبادية المستحبة في الإسلام. ليس للاعتكاف وقت محدد، لكن بعض الروايات تتحدث عن أن النبي صلى الله عليه وآله كان يعتكف في شهر رمضان. وتقام اليوم مراسم الاعتكاف في بعض البلدان الإسلامية في الأيام البيض ( 13، 14، 15 من شهر رجب) 
الإعتكاف في الأديان
الاعتكاف لا ينتمي إلى الإسلام فقط. كان الإعتكاف موجودا ومشروعا في الأمم السابقة والأديان الإلهية الماضية. وهذا أمر مسلم عند الجميع. فقد ورد آيات متعددة في القرآن الكريم تدلّ على مشروعية إعتكاف وجعله من قبل الله في الأديان الماضية والأمم السابقة. حيث ورد في الآية 125 من سورة البقرة حول بناء الكعبة بيد النبي إبراهيم خليل الله وإسماعيل ذبيح الله،
(وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ). 
فتبين من هذه الآية أنّ الإعتكاف كان موجودا ومشروعا مِن قبل الله تبارك وتعالى في زمن النبي إبراهيم على نبينا وآله وعليه السلام. لأن الله قد أمر إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام في هذه الآية أن يطهّرا البيت والكعبة لعدة فِرقٍ من المؤمنين ومنهم (العاكفين). 
فالإعتكاف كان معروفا وموجودا في ذلك الزمان. ويمكننا أن نقول أن الإعتكاف المذكور في هذه الآية كان أقرب أنواع الإعتكاف إلى الإعتكاف الموجود والمشهور في الشريعة الإسلامية. لأنه كان يقام في بيت الله الحرام وبيت الله الحرام واقع في مسجد الحرام. فهذا الإعتكاف كان في المسجد. 
وقد ورد في رواياتنا حول النبي سليمان على نبينا وآله وعليه السلام وكيفية موته (إن سليمان كان يعتكف في مسجد بيت المقدس السنة والسنتين والشهر والشهرين وأقل وأكثر، يدخل فيه طعامه وشرابه ويتعبد فيه..1)
وقد ورد أيضا حول السيدة مريم بنت عمران، عندما حملت بعيسى بن مريم، خرجت من المدينة وإبتعدت عن الناس وذهبت إلى مكان حتى يتقرب إلى الله. وإلى هذا يشير القرآن الكريم
(فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا. فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَىٰ جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَٰذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا.) مريم / 23
فيقول بعض علماء الشيعة، أن ذهابها إلى مكان مبتعد عن الناس، كان عن قصدٍ وذلك لأنها أرادت أن تعتكف وتتقرب إلى الله تبارك وتعالى.
 

الإعتكاف أم التأمل والمديتيشن
لايوجد الإعتكاف بالشكل الحالي وبالأحكام الإسلامية في الثقافات. لكن يوجد شئ قريب جدا من الإعتكاف وهو التأمل والمديتيشن. وهذا النوع من التأمل كان متداولا منذ العصور الأولى إلى الآن.  بشكل عام، لا ينصح علماء النفس بالبقاء وحيدًا وتجنب الآخرين والإنعزال. وهم يعتبرون هذا الإنعزال أحد أعراض والعلامات للإكتئاب. لكن إذا كان الخلوة والإنعزال عملاً إرادياً وإختياريا من أجل تحقيق هدف مّا، فقد لايتضمن الاكتئاب. مثل الرياضي الذي يتدرب بمفرده لساعات أو الموسيقي الذي يركز لساعات ليصنع مقطوعة موسيقية بمفرده.
هناك نهجان بصورة عامّ في هذا المجال: الأول التأمل والثاني الاعتزال العلمي. في الأولى على الشخص القيام بتمارين معينة حتى يحصل على غرضه وهدفه، أما في الثانية يكفي أن يلجأ إلى ركنه الآمن ويرتكز على نشاطاته الشخصية. وهذا النوع هو العمل الذي يتقارب من الإعتكاف الشرعي.
منذ الأعوام البعيدة، أجرت العديد من المدارس والأديان والتفكرات، العزلةَ والتركيزَ والتأمل. وتناثرت العديد من الكتب والخطب في هذا المجال. وقد إكتسب الرهبان والزهاد والكهنة ورجال الدين والعلماء والفنانون وغيرهم من ذوي الأغراض العلمية والفنية خبرةً عملية وعلمية في مثل هذه المجالات. وبشكل عام، الإنعزال والإبتعاد عن أجواء الحياة الطبيعية لفترة من الوقت يمكن أن يساعد بشكل كبير في تحسين الأفكار والبصيرة الداخلية لكل شخص.
 
 
المدتيشن meditation
في عصرنا الحالي، قد ثبت أن التأمل الخاص المعبّر عنه بالمديتيشن، هو وسيلة عملية للحصول على الإسترخاء والتركيز. ويوصي علماء علم النفس بإستخدامه يوميًا. ومنذ الخمسينيات، بدأت دراسات عديدة حول التأمل والمديتيشن في المجتمعات العلمية. في عام 2013، تم تحديد 47 دراسة ذات نتائج موثقة في مجال المديتيشن من قبل معهد أبحاث جونز هوبكنز الأمريكية. وبناءاً على هذه الدراسات، تمّ العثور على أن التأمل بشكل المديتيشن، يمكن أن يقلل من القلق والإكتئاب والألم.
وهذا التأمل بنحو المديتيشن، قريب جداً من الإعتكاف الذي قد ورد في الأديان الإلهية. والمديتيشن موجود في الثقافات المختلفة بطرق مختلفة. سوف نشير إلى البعض منها.
المديتيشن البوذي: 
هناك عدة أنواع من المديتيشن لها جذور في البوذية. البوذية هي فلسفة ودين خاص. يعتبر مديتيشن (الثيرافادا) أكثر شعبية في جنوب شرق آسيا، وخاصة في الهند وتايلاند. تعود جذور مديتيشن (بوذية الزن) إلى الصين، ولكن ظهرت حاليًا أنواع مختلفة، بما في ذلك بوذية الزن اليابانية. التأمل البوذي التبتي "التانترا" نشأ من دولة التبت السابقة.
المديتيشن المسيحي: 
التفكير والعبادة مع التركيز الصارم على المعتقدات بشكل عام أو المعتقدات الدينية هي ممارسة شائعة في المسيحية. تتم العبادة في هذا الدين بشكل رئيسي بشكل مديتيشن. حيث ينصح القسيسين بفعل التأمل والمديتيشن بشكل مستمرٍ في كل يوم.
 
 
ليوجا: 
اليوجا هي نوع من التأمل الممزوج بالتمارين الرياضية. ويعود أصلها إلى الهند.
ويمكننا العثور على أنواع مختلفة للمديتيشن والتأمل في الثقافات المختلفة المنتشرة في العالم. لكن المجمع بين جميع هذه الأنواع، هو الغرض من هذا الفعل. لأن الغرض من هذا الفعل، هو الحصول على الراحة والإسترخاء وتخلية الذهن من التوترات والقلق. وهذا الغرض الأساسي، موجود في الإعتكاف الذي قد شرع في الأديان الإلهية. لأن المعتكف، يبتعد عن الدنيا وزخرافاتها وتوتراتها ويُخلي ذهنَه للتقرب إلى الله تبارك وتعالى ويتفكر في عظمة الله. وهذا يؤدي إلى تخلية القلق والتوترات من ذهن الشخص.
الإعتكاف في اللغة والإصطلاح
الإعتكاف مصدر باب إفتعال من مادة (عكف) وهو في اللغة بمعنى لزوم الشئ وحبس النفس عليه. جاء في كتاب جواهر الكلام حول تعريف الإعتكاف (الإعتکاف لغة هو الإحتباس. ومنه اللبث الطويل الذي هو أحد أفراد لزوم النفس عليه براً  کان أو غيره قال الله تعالي: ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاکفون؟ أي لازمون لها و حاسبون أنفسکم عليها. نحو قوله: يعکفون علي أصنام لهم. وشرعا علي وجه النقل أو المجاز الشرعي هو اللبث المتطاول للعبادة2). وفي الإصطلاح الديني والإسلامي عبارة عن المكث في المسجد بنية التقرب إلى الله تعالى. فإتضح من هذا التعريف أن مجرّد المكث في المسجد ليس إعتكافا. بل يجب أن يكون المكث في المسجد بنية التقرب إلى الله تبارك وتعالى. 
 
 
الإعتكاف في القرآن والروايات
نفس كلمة (الإعتكاف) لم يورد في القرآن الكريم. لكن مشتقاته وقرائنه قد وردوا في آيات كثيرة من القرآن الكريم. حيث ورد مثل لفظ (معكوفا) و(يعكفون) و(عاكف) تسع مرات في آيات متعددة من القرآن. مثل (هم الذين کفروا وصدّوکم عن المسجد الحر‌ام والهدي معکوفا أن يبلغ محلّه ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطئوهم فتصيبکم منهم معرّة بغير علم ليدخل اللّـه في رحمته من يشاء لو تزيلوا لعذّبنا الذين کفروا منهم عذابا أليما3).
وقد ورد روايات كثيرة من أهل البيت عليهم السلام حول الإعتكاف وكيفية أدائه وآدابه وأحكامه. مثل ما ورد عن الإمام الصادق عليه السلام حول إعتكاف النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم (اعْتَكَفَ رَسُولُ اللَّهِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فِي الْعَشْرِ الْأُوَلِ ثُمَّ اعْتَكَفَ فِي الثَّانِيَةِ فِي الْعَشْرِ الْوُسْطَى ثُمَّ اعْتَكَفَ فِي الثَّالِثَةِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ ثُمَّ لَمْ يَزَلْ يَعْتَكِفُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ4.)
 

1) المجلسي، محمدباقر، بحارالأنوار، ج14، قم، نشر مؤسسة إحياء الكتب الإسلامية، 1430 ق، ص141.
2) النجفي، الشيخ محمدحسن، جواهر الكلام، ج17، بيروت، نشر دار إحياء التراث العربي، 1362ش، ص159.
3) سورة الفتح، الآية 25.
4) الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، ج4، بيروت، منشورات الفجر، 1428 ق، ص175.

 

شارك هذا المقال

التعليق 0

رأيك في الموضوع

تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة

من نحــن

مجلة ريحانة الالكترونية تعنى بجميع شؤون المرأة التي تناولها القرآن الكريم والسنة الشريفة. تعمل هذه المجلة تحت مجموعة شبكة رافد للتنمية الثقافية وهي مجموعة ثقافية تحت إشراف مؤسسة آل البيت (عليهم السلام).
علماً بأن عنوان هذه المجلة قد تم اقتباسه من الحديث الشريف عن أمير المؤمنين علي بن أبيطالب (عليه السلام): "المرأة ريحانة وليست بقهرمانة".(نهج البلاغة)

أحدث المقالات

اسألي الفقيه