مجلة ريحانة الالكترونية

السيدة زينب في عهد والدها أمير المؤمنين

بعد أن وصل الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) من البصرة إلى الكوفة ، واستقر به المكان ، إلتحقت به العوائل من المدينة إلى الكوفة .
ومن جملة السيدات اللواتي هاجرن من المدينة إلى الكوفة هي السيدة زينب (عليها السلام) وقد سبقها زوجها عبد الله بن جعفر ، حيث كان في جيش الإمام لدى وصوله إلى البصرة .
والمستفاد من مطاوي التواريخ والأحاديث أن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) ـ بعد انقضاء مدة من وصوله إلى الكوفة ـ نزل في دار الامارة ، وهو المكان المعد لحاكم البلدة ، ومع تواجد الإمام في الكوفة لم يكن هناك حاكم أو أمير غيره ، فلماذا لا ينزل في دار الإمارة ؟

ويتبادر إلى الذهن أن دار الامارة كانت مشتملة على حجرات وغرف عديدة واسعة ، وكان كل من البنات والأولاد ) المتزوجين) يسكنون في حجرة من تلك الحجرات ، والسيدة زينب كانت تسكن مع زوجها في حجرة أو غرفة من غرف دار الإمارة .
ومكثت السيدة زينب (عليها السلام) في الكوفة سنوات وعاصرت الأحداث والإضطرابات الداخلية التي حدثت : من واقعة صفين إلى النهروان ، إلى الغارات التي شنها عملاء معاوية على بلاد الإمام أمير المؤمنين عليه السلام .
إنقضت تلك السنوات المريرة ، المليئة بالآلام والمآسي ، وانتهت تلك الصفحات المؤلمة بالفاجعة التي اهتزت منها السماوات والأرضون ، وهي حادثة استشهاد الإمام أمير المؤمنين عليه السلام.
لقد كانت العلاقات الودية بين الإمام أمير المؤمنين وبين أولاده وبناته على أطيب ما يمكن ، وفي جو من الصفاء والوفاء ، والعاطفة والمحبة .
والإمام أمير المؤمنين هو السلطان الحاكم على نصف الكرة الأرضية ، ومعه عائلته المصونة وأبناؤه المكرمون ، ولكنه ـ في شهر رمضان من تلك السنة ، وهي السنة الأخيرة والشهر الأخير من حياته ـ كان يفطر ليلة عند ولده الإمام الحسن ، وليلة عند ولده الإمام الحسين (عليهما السلام) وليلة عند السيدة زينب التي كانت تعيش مع زوجها عبد الله بن جعفر ، (1) كل ذلك تقويةً لأواصر المحبة والتواصل بينه وبين أشباله وبناته .
وفي الليلة التاسعة عشر من شهر رمضان ، كانت النوبة للسيدة زينب ، وأفطر الإمام في حجرتها وقدمت له طبقاً فيه رغيفان من خبز الشعير ، وشيء من الملح ، وإناء من لبن .
كان هذا هو فطور الإمام أمير المؤمنين الذي كان يحكم على نصف العالم ، وأنهار الذهب والفضة تجري بين يديه . واكتفى الإمام ـ تلك الليلة ـ برغيف من الخبز مع الملح فقط .
ثمّ حمد الله وأثنى عليه ، وقام إلى صلاة ، ولم يزل راكعاً وساجداً ومبتهلاً ومتضرعاً إلى الله تعالى . ولا أعلم لماذا بات الإمام في حجرة ابنته السيدة زينب ـ تلك الليلة ـ ؟
ولعله اختار المبيت في بيتها حتى تشاهد وترى ، وتروي مشاهداتها ومسموعاتها عن أبيها أمير المؤمنين في تلك الليلة ، إذ كانت تلك الليلة تمتاز عن بقية الليالي ، فإنها تحدثنا فتقول:
إنه (عليه السلام( قال لأولاده : "إني رأيت ـ في هذه الليلة ـ رؤيا هالتني ، وأريد أن أقصها عليكم" .
قالوا : وما هي ؟
قال : "إني رأيت ـ الساعة ـ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في منامي وهو يقول لي : يا أبا الحسن إنك قادم إلينا عن قريب ، يجيء إليك أشقاها فيخضب شبيتك من دم رأسك ، وأنا ـ والله ـ مشتاق إليك ، وإنك عندنا في العشر الآخر من شهر رمضان ، فهلم إلينا فما عندنا خير لك وأبقى".
فلما سمعوا كلامه ضجوا بالبكاء والنحيب ، وأبدوا العويل ، فاقسم عليهم بالسكوت ، فسكتوا(2).
وتقول السيدة زينب ) عليها السلام( :
لم يزل أبي ـ تلك الليلة ـ قائماً وقاعداً وراكعاً وساجداً ، ثم يخرج ساعةً بعد ساعة ، يقلب طرفه في السماء وينظر في الكواكب وهو يقول : والله ما كذبت ولا كذبت ، وإنها الليلة التي وعدت بها . ثم يعود إلى مصلاّه ويقول :
اللهم بارك لي في الموت . ويكثر من قول : "انا لله وإنا إليه راجعون" ،" ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم" ، ويصلي على النبي وآله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ ويستغفر الله كثيراً .
تقول : فلما رأيته ـ في تلك الليلة ـ قلقاً متململاً (3) كثير الذكر والإستغفار ، أرقت معه ليلتي (4) وقلت : يا أبتاه ما لي أراك في هذه الليلة لا تذوق طعم الرقاد ؟
قال ـ عليه السلام ـ : يا بنية إن أباك قتل الأبطال وخاض الأهوال وما دخل الخوف له جوفاً ، وما دخل في قلبي رعب أكثر مما دخل في هذه الليلة .
ثمّ قال : إنا لله وإنا إليه راجعون .
فقلت : يا أبتاه ، ما لك تنعى نفسك في هذه الليلة ؟
قال : يا بنية قد قرب الأجل وانقطع الأمل .
قالت : فبكيت ، فقال لي : يا بنية لا تبكي فإني لم أقل ذلك إلا بما عهد إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم . تقول (عليها السلام) : ثم إنه نعس وطوى ساعة ، ثم استيقظ من نومه وقال : يا بنية إذا قرب وقت الأذان فأعلميني . ثم رجع إلى ما كان عليه أول الليل من الصلاة والدعاء والتضرع إلى الله سبحانه وتعالى .
فجعلت أرقب وقت الأذان ، فلما لاح الوقت أتيته ومعي إناء فيه ماء ، ثم أيقظته فأسبغ الوضوء ، وقام ولبس ثيابه وفتح باب الحجرة ، ثم نزل إلى ساحة الدار .
وكانت في الدار إوز (5) قد أهديت إلى أخي الحسين ، فلما نزل خرجن وراءه ورفرفن وصحن في وجهه ـ ولم يصحن قبل تلك الليلة ـ فقال (عليه السلام) : "لا إله إلا الله ، صوارخ تتبعها نوائح ، وفي غداة غد يظهر القضاء" .
فقلت : يا أبتاه هكذا تتطير ؟ !
فقال : "يا بنية ! ما منا ـ أهل البيت ـ من يتطير ، ولا يتطير به ، ولكن قول جرى على لساني" .
ثم قال ـ عليه السلام ـ : "يا بنية ! بحقي عليك إلا ما أطلقتيه ، فقد حبست ما ليس له لسان ، ولا يقدر على الكلام إذا جاع أو عطش ، فأطعميه واسقيه وإلا خلي سبيله يأكل من حشائش الأرض" .
فلما وصل إلى الباب عالجه ليفتحه ، فتعلق الباب بمئزره ، فانحل مئزرة حتى سقط ، فأخذه وشده وهو يقول :
أشـدد حيازيمك للموت ولا تجـزع من الموت كما أضحكـك الـدهر         فإن المـوت لاقيكـا إذا حــل بنـاديكا كذاك الدهـر يبكيكـا

ثم قال : "اللهم بارك لنا في الموت ، الله مبارك لي في لقائك" .
تقول السيدة أم كلثوم:
وكنت أمشي خلفه ، فلما سمعته يقول ذلك قلت : واغوثاه يا أبتاه ! أراك تنعى نفسك منذ الليلى ؟!
فقال ـ عليه السلام ـ : "يا بنية ! ما هو بنعاء ، ولكنها دلالات وعلامات للموت . . يتبع بعضها بعضاً" . ثم فتح الباب وخرج .
فجئت إلى أخي الحسن فقلت: يا أخي قد كان من أمر أبيك الليلة كذا وكذا ، وهو قد خرج في هذا الليل الغلس ، فالحقه(6).
فقام الحسن (عليه السلام ) وتبعه ، فلحق به قبل أن يدخل الجامع ، فأمره الإمام بالرجوع ، فرجع .
أيها القارئ الكريم :
هنا ننقل ما ذكره المؤرخون ، ثم نعود إلى حديث السيدة زينب عليها السلام :
لقد جاء الإمام علي (عليه السلام (حتى دخل المسجد ، فصعد على المئذنة ووضع سبابتيه في أذنيه وتنحنح ، ثم أذن فلم يبق في الكوفة بيت إلا اخترقه صوته ، ثم نزل عن المئذنة وهو يسبح الله ويقدسه ويكبره ، ويكثر من الصلاة على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ).
وكان يتفقد النائمين في المسجد ويقول للنائم : الصلاة يرحمك الله ، قم إلى لصلاة المكتوبة ، ثمّ يتلو:{ إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ}(7).
. . . . ثّم اتجه نحو المحراب وقام يصلي ، وكان (عليه السلام) يطيل الركوع والسجود ، فقام ابن ملجم ( لعنه الله) لارتكاب أكبر جريمة في تاريخ الكون ، وأقبل مسرعاً حتى وقف بأزاء الاسطوانة التي كان الإمام يصلي عندها ،(8) فأمهله حتى صلى الركعة الأولى وسجد السجدة الأولى ورفع رأسه منها ، فتقدم اللعين ورفع السيف وهزه ثم ضرب الإمام على رأسه الشريف ، فوقعت الضربة على مكان الضربة التي ضربه عمرو بن عبدود العامري ، يوم الخندق .
فوقع الإمام (عليه السلام) على وجهه قائلاً : بسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله ، فزت ورب الكعبة ، هذا ما و عد الله ورسوله ، وصدق الله ورسوله .
وسال الدم على وجهه الشريف ، وشيبته المقدسة ، وعلى صدره وأزياقه (9) ، حتى اختضبت شيبته وتحقق ما أخبر عنه الرسول الكريم .
وفي هذه اللحظة الأليمة هتف جبرئيل ـ بين السماء والأرض ـ ذلك الهتاف السماوي الذي لم يسبق له مثيل في تاريخ الأنبياء والأوصياء .
لقد هتف جبرئيل بشهادة الإمام علي (عليه السلام) كما هتف ـ يوم أحد ـ بفتوته وشهامته يوم قال : "لا فتى إلا علي لا سيف إلا ذوالفقار" .
فقد اصطفقت أبواب المسجد الجامع (10) ، وضجت الملائكة في السماء ، وهبت ريح عاصفة سوداء مظلمة ، ونادى جبرئيل بصوت سمعه كل مستيقظ :
" تهدمت ـ والله ـ أركان الهدى ، وانطمست ـ والله ـ نجوم السماء وأعلام التقى ، وانفصمت ـ والله ـ العروة الوثقى ، قتل ابن عم محمد المصطفى ، قتل الوصي المجتبى ، قتل علي المرتضى ، قتل ـ والله ـ سيد الأوصياء ، قتله أشقى الأشقياء" .
فلما سمعت السيدة أم كلثوم نعي جبرئيل لطمت على وجهها وخدها ، وشقت جيبها وصاحت : واأبتاه ! واعلياه ! وامحمداه ! واسيداه !
. . . . ثم حملوا الإمام ـ والناس حوله يبكون وينتحبون ـ وجاؤوا به إلى الدار . فاقبلت بنات رسول الله وسائر بنات الإمام ، وجلسن حول فراشه ينظرن إلى أسد الله وهو بتلك الحالة ، فصاحت السيدة زينب وأختها : أبتاه من للصغير حتى يكبر ؟ ! ومن للكبير بين الملأ ؟!
يا ابتاه ! حزننا عليك طويل ، وعبرتنا لا ترقأ (11) .
فضج الناس ـ من وراء الحجرة ـ بالبكاء والنحيب ، وشاركهم الإمام (عليه السلام) وفاضت عيناه بالدموع .
وفي ليلة الحادية والعشرين من شهر رمضان ، في الساعة الأخير من حياة الإمام (عليه السلام) كانت السيدة زينب (عليها السلام) جالسة عنده تنظر في وجهه ، إذ عرق جبين الإمام ، فجعل يمسح العرق بيده ، فقالت زينب : يا أبه أراك تمسح جبينك ؟
قال : يا بنية سمعت جدك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول : "إن المؤمن إذا نزل به الموت ودنت وفاته عرق جبينه وصار كاللؤلو الرطب ، وسكن انينه" .
فعند ذلك ألقت زينب بنفسها على صدر أبيها وقالت : يا ابه حدثتني أم أيمن بحديث كربلاء ، وقد أحببت أن أسمعه منك. فقال (عليه السلام) : " يا بنية ! الحديث كما حدثتك أم أيمن ، وكأني بك وبنساء أهلك لسبايا بهذا البلد ، خاشعين تخافون أن يتخطفكم الناس ، فصبراً صبراً" .
ثم التفت الإمام إلى ولديه الحسن والحسين (عليهما السلام) وقال : "يا أبا محمّد ويا أبا عبد الله ، كأني بكما وقد خرجت عليكما من بعدي الفتن من ها هنا وها هنا ، فاصبرا حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين .
يا ابا عبد الله ! أنت شهيد هذه الأمة ، فعليك بتقوى الله والصبر على بلائه .
ثم أغمي عليه وأفاق ، وقال : هذا رسول الله وعمي حمزة وأخي جعفر وأصحاب رسول الله ، وكلهم يقولون : عجل قدومك علينا فإنا إليك مشتاقون .
ثم أدار عينيه في وجوه أهل بيته وقال لهم :" استودعكم الله" ، وتلا قوله تعالى : {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ}(12). وقوله سبحانه :{إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ}(13).
ثم تشهد الشهادتين وفارق الحياة ، فعند ذلك صرخت زينب وأم كلثوم وجميع نسائه وبناته ، وشققن الجيوب ، ولطمن الخدود ، وارتفعت الصيحة في الدار .
ولما فرغ أولاد الإمام (عليه السلام) من تغسيله ، نادى الإمام الحسن أخته زينب وقال : يا أختاه هلمي بحنوط جدي رسول الله ـ وكان قد نزل به جبرئيل من الجنة ـ .فبادرت السيّدة زينب مسرعة حتى أتته به ، فلما فتحته فاحت الدار لشدة رائحة ذلك الطيب .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1ـ الإرشاد للشيخ المفيد ، ص 169 ، وذكر أيضاً في "بحار الأنوار" للشيخ المجلسي ، ج 41 ص 300 ، باب إخباره بالغائبات وعلمه باللغات . نقلاً عن كتاب الخرائج .
2ـ كتاب "بحار الأنوار" للشيخ المجلسي ج 42 ص 277 ، باب 127 .
3ـ متململاً : التململ : هو الإضطرات وعدم الإستقرار بسبب الهم أو الألم . وجاء في كتاب (العين) للخليل بن أحمد :
الململة : أن يصير الإنسان من جزع أو حرقة كأنه يقف على جمر . وقال الفيروز آبادي في (القاموس) : التململ :
التقلب . . مرضاً أو غماً.
4 ـ أرقت معه : أي سهرت معه ، الأرق : السهر .
5 ـ إوز ـ بكسر الهمزة وفتح الواو وتشديد الزاي ـ : البط ، كما في (مجمع البحرين) للطريحي . وقيل : الإوز : طائر يشبه البط في شكله العام ولكنه اكبر منه حجماً وأطول عنقاً . كما في كتاب (المعجم الوسيط) .
6 ـ الغلس ـ بفتح اللام ـ : ظلمة آخر الليل كما في ( القاموس) للفيروز آبادي . وقيل : ظلام آخر الليل إذا اختلط بضوء الصباح . كما في كتاب (مجمع البحرين) للطريحي.
7 ـ سورة العنكبوت : الآية 45 .
8 ـ الأسطوانة : العمود الذي يعتمد عليه سقف البناء . وكلمة " أسطوانة" معربة من اللغة الفارسية ، وأصلها :
"ستون" أو " أستون" .
9ـ أزياق ـ جمع زيق . . بالكسر ـ : زيق القميص : ما أحاط بالعنق من القميص . كما في كتاب القاموس وتاج العروس .
وبتعبير آخر : زيق ، فتحة القميص التي يدخل الإنسان رأسه منها .
10 ـ إصطفقت : ضربت بعضها ببعض ، ضرباً يسمع منه الصوت.
11ـ لا ترقأ : لا تنقطع ، أو لا تجف .
12 ـ سورة الصافات/61 .
13ـ سورة النحل/128

شارك هذا المقال

التعليق 0

رأيك في الموضوع

تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة

من نحــن

مجلة ريحانة الالكترونية تعنى بجميع شؤون المرأة التي تناولها القرآن الكريم والسنة الشريفة. تعمل هذه المجلة تحت مجموعة شبكة رافد للتنمية الثقافية وهي مجموعة ثقافية تحت إشراف مؤسسة آل البيت (عليهم السلام).
علماً بأن عنوان هذه المجلة قد تم اقتباسه من الحديث الشريف عن أمير المؤمنين علي بن أبيطالب (عليه السلام): "المرأة ريحانة وليست بقهرمانة".(نهج البلاغة)

أحدث المقالات

اسألي الفقيه