مجلة ريحانة الالكترونية

لا للإرهاب الفكري

علينا الأعتراف بحق الاختلاف و حرية الرأي .
اختلاف العلماء في القضايا الدينية عنصر إثراء للمعرفة

و تكريس لحرية لاجتهاد .
الإنسان حر في الاختيار .. و يتحمل مسؤولية قراره و اختياره أمام الله تعالى .
ساحاتنا الدينية بحاجة إلى اعتراف بحق الخلاف و تعزيز حرية الرأي .
الوصاية الفكرية تهدف إلى فرض الهيمنة على الآخرين .
اختلاف الآراء و تباين الأفكار أمر طبيعي في واقع المجتمعات البشرية ، فلا تخلو ساحة من ساحات المعرفة من تعدد المدارس و النظريات .
و الساحة الدينية في المجتمع تخضع أيضاً لهذه المعادلة ، حتى و إن كانت تنتمي إلى دين واحد ، أو مذهب واحد .
ذلك لأن النصوص المنقولة هي المصدر الأساس لمعارف الدين وتعاليمه ، و النص بطبيعته قد يحتمل أكثر من قراءة و تفسير ، و أوضح شاهد على هذا اختلافات المفسرين في معاني كثير من آيات القرآن الكريم .
و هناك إلى جانب تعدد قراءات النص ، الاختلاف في تقويم ظروف صدوره ، أو طرق وصوله ، كما هو الحال في أحاديث السنة النبوية ، و الروايات الواردة عن أئمة أهل البيت ، و أعلام الصحابة ، و وقائع السيرة و التاريخ .
إن من الطبيعي أن يؤثر تفاوت المستوى العلمي ، و اختلاف البيئات الثقافية و الاجتماعية ، و تنوع زوايا النظر و منطلقات البحث ، بل و حتى التكوين الذهني و النفسي لكل باحث في فهم المسائل و تحديد المواقف .
لذلك أصبح اختلاف العلماء و الباحثين في القضايا الدينية أمراً معروفاً ، و يُعَدُّ عنصر إثراء للمعرفة الدينية ، و تكريساً لحرية الاجتهاد و الرأي .
لكن دافع التنافس على الكسب الاجتماعي ، قد يحوّل الاختلاف في بعض المسائل الدينية إلى معركة صراع و نزاع ، و هذا هو الداء الأخطر الذي تعاني منه الساحة الدينية .
حيث تحتدم المعارك المذهبية ، و تشتد الصراعات بين المدارس و التيارات الفكرية ، و بين أتباع المرجعيات و القيادات الدينية . و تستعمل فيها أسلحة فتاكة قذرة كفتاوى التكفير و التبديع و التضليل و إسقاط الشخصيات و إهدار الحقوق و هتك الحرمات .
من حق الإنسان أن يعبر عن رأيه و ينتصر لتوجهه

و تنطلق هذه النزاعات في الغالب من دوافع مصلحية ، يكون فيها اختلاف الرأي مبِّرراً و عنواناً . و يدفع المجتمع ثمناً باهظاً من وحدته و انسجامه بسبب تلك النزاعات ، حيث تحصل حالات خصومة و عداء حتى بين الأقارب و الأرحام ، و يشككون في تديّن بعضهم بعضاً ، و يترامون تُهمَ الانحراف و الضلال .
و عادة ما يُستغل الحماس و العاطفة الدينية عند الناس ، و خاصة من شريحة الشباب الطيبين ، لقذفهم في أتون المواجهة ضد هذه الفكرة أو تلك ، و لمحاربة هذه الشخصية أو تلك الجهة ، على أساس الدفاع عن العقيدة و المذهب ، و الانتصار لهذه المرجعية أو هذا التوجه .
ليس من الخطأ أن يقتنع الإنسان برأي ، أو ينتمي إلى مدرسة ، أو يؤمن بقيادة ، أو يثق بمرجعية ، كما أن من حقه أن يعبِّر عن رأيه ، و أن ينتصر لتوجُّهه ، و أن يبشـّر بأفكاره ، لكن الخطأ هو احتكار هذا الحق لنفسه و إنكاره ذلك على الآخرين .
إننا في ساحتنا الدينية بحاجة إلى الاعتراف بحق الاختلاف ، و تعزيز حرية الرأي ، و نشر ثقافة التسامح و قبول الآخر . و يجب أن نرفع الصوت عالياً ضد الإرهاب و القمع الفكري ، و محاولات الهيمنة ، و فرض الوصاية على عقول الناس و أفكارهم ، باسم العقيدة و الدين .
إدارة الصراع الفكري

تمييزاً للإنسان عن بقية المخلوقات ، و تفضيلاً له عليهم ، وهب الله له عقلاً يمتلك به قدرة التفكير و صنع الرأي ، و منحه إرادة يتمكن بها من اتخاذ القرار و حرية الاختيار .
و بذلك أصبح أهلاً للتكليف و الخطاب الإلهي ، و كان مؤهلاً للثواب عند الطاعة ، مستحقاً للعقاب على المعصية ، و بعقله و إرادته يستطيع الإنسان القيام بمهمة عمارة الأرض و تسخير إمكانات الحياة ، و استثمار خيرات الكون .
هكذا شاءت حكمة الله تعالى أن يكون الإنسان مفكراً مريداً له حرية القرار و الاختيار ، لكن بعض الإرادات الشريرة في عالم الإنسان نفسه ، و من وسط أبناء جنسه ، تحاول حرمانه من هذه الميزة العظيمة التي منحها الله تعالى إياه .
حيث يسعى بعض الأفراد و الفئات لممارسة الهيمنة والتسلط على من حولهم من البشر ، و يصادرون حريتهم في التفكير و حقهم في الاختيار .
لقد عانى الإنسان و لا زال يعاني من نوعين من محاولات الاستعباد و التسلط : استعباد لجسمه يقيّد حركته و نشاطه ، و تسلط على فكره يصادر حرية رأيه ، و حقه في التعبير عنه .
و إذا كانت مظاهر الاستعباد المادي قد تقلصت ، فإن ممارسات الوصاية الفكرية لا تزال واسعة النطاق ، خاصة في مجتمعاتنا العربية و الإسلامية .
و تعني الوصاية الفكرية : أن جهة ما تعطي لنفسها الحق في تحديد ساحة التفكير أمام الناس ، و تسعى لإلزامهم بآرائها و أفكارها عن طريق الفرض و الهيمنة .
و من أبرز مظاهر الوصاية الفكرية ما يلي :
1 ـ فرض الرأي على الآخرين بالقوة ، و مصادرة حريتهم في الاختيار .
2 ـ النيل من الحقوق المادية و المعنوية للآخرين بسبب اختياراتهم الفكرية .
3 ـ الاحتقار و سوء التعامل مع ذوي الرأي الآخر .
لماذا الوصاية الفكرية ؟

إذا كان الله تعالى قد منح الإنسان عقلاً ليفكر به ، و إرادة ليقرر و يختار ، و ليتحمل مسؤولية قراره و اختياره ، فلماذا يحاول البعض حرمان الآخرين من استعمال هذه المنحة الإلهية و استثمارها ، فيمارسون الوصاية على عقول الآخرين و إراداتهم ، فهم يفكرون نيابة عن الناس ، و على الناس أن يقبلوا آراءهم . و من تجرأ على المخالفة ، و مارس حرية التفكير و حق الاختيار لما اقتنع به من رأي ، فله منهم الويل و الأذى!! حيث يستعملون ضد المتمردين على هيمنتهم الفكرية كل وسائل الضغط و التنكيل المادية و المعنوية .

إن الدافع الحقيقي لهؤلاء في ممارسة الوصاية الفكرية ، هو في الغالب دافع مصلحي ، بهدف تحقيق الهيمنة على الآخرين ، و استتباعهم للذات .
لكنهم يتحدثون عن دافع آخر يبررون به ممارستهم للوصاية الفكرية ، و هو دافع الإخلاص للحق الذي يعتقدونه في رأيهم ، و الرغبة في نشر الحق و هداية الآخرين إليه .
و إذا ما تأملنا هذا الإدعاء ، و ناقشنا هذا التبرير على ضوء العقل و الشرع ، فسنجده ادِّعاءً زائفاً ، و تبريراً خاطئاً .
ذلك أن ادِّعاءهم أحقية رأيهم يقابله ادِّعاء مماثل من الآخرين ، فكل صاحب دين أو مذهب أو رأي ، يرى أحقيَّة مسلكه ، فهل يقبلون محاولة الآخرين لفرض رأيهم عليهم ؟
إن اعتقاد الإنسان بصواب رأيه ، و إخلاصه لذلك الرأي ، و رغبته في إتباع الآخرين له ، كل ذلك أمر مشروع ، و لكن ليس عبر الفرض و الوصاية ، و إنما عن طريق إقناع الآخرين بذلك الرأي ، و من يرفض الاقتناع فهو حُرٌّ في اختياره محقًّا كان أو مبطلاً ، و ليس من العقل و المنطق إجباره .
القراءة الواعية للقرآن و السيرة النبوية تكشف عن منظومة من المفاهيم و التعاليم الدينية

و لأن الساحة الدينية عادة ما تبتلى بوجود فئات و جهات تمارس الوصاية الفكرية ، و تسعى لفرض آرائها ، باعتبار ذلك وظيفة دينية ، و تكليفاً شرعيًّا ، كان لا بد من مناقشة هذه الممارسة على ضوء تعاليم الدين و مفاهيمه .
فهل يشرّع الدين لممارسة الوصاية الفكرية بمعنى فرض الرأي بالقوة ، و النيل من حقوق المخالفين ، و سوء التعامل معهم ؟
إن القراءة الواعية لآيات القرآن الكريم ، و نصوص السنة و السيرة النبوية الشريفة ، و أقوال و سيرة أئمة أهل البيت ، تكشف عن منظومة من المفاهيم والتعاليم الدينية تؤكد على حرية الإنسان و حقه في الاختيار ، و أنه يتحمّل مسؤولية قراره و اختياره أمام الله تعالى ، و ترفض الاستعباد و الوصاية الفكرية على الناس .
الخالق لم يفرض الإيمان به

لتقرير حرية الإنسان و تأصيل وجودها ، تؤكد كثير من آيات القرآن الكريم ، أن الله تعالى لم يشأ أن يفرض الإيمان به على خلقه بالإجبار و القوة ، بل أودعهم عقولاً تقودهم نحوه و فطرة ترشدهم إليه ، و بعث لهم أنبياء يدعونهم إلى الإيمان به ، ثم ترك للناس حرية الاختيار في هذه الحياة .
يقول تعالى : ﴿ وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ ... ﴾ 1. و يقول تعالى : ﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ﴾ 2 .
و تشير آيات أخرى في القرآن الكريم إلى أن الله تعالى جعل فرص الحياة متساوية بين المؤمنين و الكافرين ، يقول تعالى : ﴿ كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا ﴾ 3 .
و إذا كان الله تعالى لم يفرض على عباده الإيمان به قسراً ، لتكون الحياة دار اختيار و اختبار ، كما شاءت حكمته ، فكيف يحق لأحد أن يمارس فرض الإيمان على الناس باسم الله و نيابة عنه ؟
إنه تعالى لا يريد الإيمان به عن طريق القوة و القسر ، لأنه حينئذٍ لن يكون إيماناً حقيقيًّا ، و لو أراد الله تعالى إخضاع الإنسان للإيمان قسراً لكان ذلك ميسوراً عليه . يقول تعالى : ﴿ وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ ﴾ 4 .
و بضرس قاطع و رفض صريح ، يقول تعالى: ﴿ لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ... ﴾ 5 ، و قد ورد في سبب نزول هذه الآية أنها نزلت في رجل من الأنصار من بني سالم بن عوف يقال له : الحصين ، كان له ابنان نصرانيان ، و كان رجلاً مسلماً فقال للنبي : ( ألا أستكرههما فإنهما قد أبيا إلا النصرانية ؟ ) فأنزل الله فيه ذلك 6 7 .

    1. القران الكريم : سورة الكهف ( 18 ) ، الآية : 29 ، الصفحة : 297 .
    2. القران الكريم : سورة الإنسان ( 76 ) ، الآية : 3 ، الصفحة : 578 .
    3. القران الكريم : سورة الإسراء ( 17 ) ، الآية : 20 ، الصفحة : 284 .
    4. القران الكريم : سورة يونس ( 10 ) ، الآية : 99 ، الصفحة : 220 .
    5. القران الكريم : سورة البقرة ( 2 ) ، الآية : 256 ، الصفحة : 42 .
    6. الميزان في تفسير القرآن ، محمد حسين الطباطبائي .
    7. نشرت في « جريدة الوطن القطرية » - السبت 29 /12 / 2007 م ، العدد 4500

رابط الموضوع

شارك هذا المقال

التعليق 0

رأيك في الموضوع

تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة

من نحــن

مجلة ريحانة الالكترونية تعنى بجميع شؤون المرأة التي تناولها القرآن الكريم والسنة الشريفة. تعمل هذه المجلة تحت مجموعة شبكة رافد للتنمية الثقافية وهي مجموعة ثقافية تحت إشراف مؤسسة آل البيت (عليهم السلام).
علماً بأن عنوان هذه المجلة قد تم اقتباسه من الحديث الشريف عن أمير المؤمنين علي بن أبيطالب (عليه السلام): "المرأة ريحانة وليست بقهرمانة".(نهج البلاغة)

أحدث المقالات

اسألي الفقيه