مجلة ريحانة الالكترونية

فتاة الملجأ


بدأت الكارثة في تلك الليلة الممطرة، كنّا نتناول طعام العشاء عندما رنّ جرس الهاتف.
رفع زوجي سماعة الهاتف، ولكن احداً لم يتكلم، مرّت لحظات يستمع الى الصوت، ثم وضع السماعة وعاد الى المائدة.
مرّت دقائق ورنّ الجرس مرّة اخرى، وفي هذه المرّة، خفّ ابني الصغير ورفع السماعة، وايضاً لم يكن هناك سوى السكوت.
شعرت بالقلق، كنت أرقب زوجي من زاوية عيني، وكنت انتظر ان يقول شيئاً ما!


في كل ليلة كان الجرس يرنّ ولم يكن غير ذلك المجهول، ادركته من خلال سكوت زوجي ونظراته، انه بدأ يشكّك فيّ.
أصبح سيىء المزاج وعصبياً، وكان يصرخ بي وبطفلي لأقل شيء.
كان يتناول عشاءه ويلج غرفته ويغلق الباب على نفسه، فكرت ان اذهب اليه في غرفته واقبّل قدميه وأبكي واقول له:
ـ صدّقني يا احمد! انني لا اعرف ذلك المجهول، وعندما أقف خلف الباب، اتراجع عن قراري واعود الى غرفتي لاحتضن طفلي في الظلام وابكي.
كان الوقت منتصف الليل عندما رنّ جرس الهاتف كخنجر يمزّق صدري.
نهضت برعب واسرعت الى البهو قبل ان يستيقظ زوجي، رفعت السماعة وانتظرت:
ـ مريم أليس كذلك؟
وكان صوت رجل تنمّ لهجته عن انسان غير مهذّب.
ـ نعم انا مريم، من تكون يا سيّد؟!
اجاب بلهجة تشوبها ضحكة ما جنة:
ـ أنا من يعرف سرّ حياتك... هل يسرّك ان اخبر زوجك العزيز بذلك؟
شعرت بأنه يمزّق نياط قلبي وصرخت به غاضبة:
ـ لماذا تزاحم الناس يا أبله؟
ـ أنا الابله ام انت يا بنت الملجأ يا من تربّيتي في كنف عائلة معروفة ثم لتصبحي زوجة مهندس؟ انني أعرف كل شيء عن حياتك، هل تودّين ان اطلع زوجك على ماضيك؟
اختنقت بعبرتي، فقدت القدرة على الكلام، والمجهول عندما رأى سكوتي قال:
ـ يكفي هذا القدر في هذه الليلة، اردت أن احيطك علماً بأني اعرف اسراراً عن حياتك.
شهقت ببكائي ، قلت له:
ـ أيها الظالم يا عديم المروءة، لماذا تلعب بحياة الآخرين وسعادتهم؟
قهقه الرجل المجهول وقال:
ـ برهني على ان سعادتك مهمة بالنسبة لك... سأتصل غداً.
شعرت بالانهيار والرعب.. فجأة سمعت زوجي يخاطبني بلهجة مهددة:
ـ مع من تتحدثين؟
اجبت مرتبكة:
ـ لا احد.. مزاحم يهذي.
قال زوجي وهو يطفح غضباً وشكّاً:
ـ نعم.. انه مزاحم.. لايعجبه صوتي!
اجبته وأنا أبكي:
ـ صدّقني يا احمد.. انني لا اكذب... ان هذا الغريب يريد ان يدمّر حياتنا.
اهمل زوجي كلماتي ولم يعرها اي اهتمام وعاد ادراجه الى غرفته ليغلق الباب وراءه بعنف.
أما أنا فرميت نفسي فوق السرير ودفنت وجهي في الوسادة.. وبكيت.
تساءلت عن هذا المجهول الذي يريد ان يعبث بحياتي؟
هذا ظلم .. ظلم.. انني احب زوجي وطفلي.. ولا يحق لأحد ان يسلبني هذه السعادة.. ادركت ان هذا المجهول يعرف سرّ حياتي.
اجل انه صادق في دعواه.. فأنا كنت لقيطة.. لديّ اضبارة في احد ملاجىء المدينة.. اضبارتي تتضمن معلومات عن حياتي.
تقول الاضبارة: "ان رجلاً مجهولاً يودع طفلة صغيرة لدى قسم الاطفال الرضّع ثم يغادر المكان دون ان يترك عنواناً"
على اني لم أعِ ما حولي الا في ظل اسرة ثرية، فعشت منعّمة مع أب رحيم وأم مغرورة وانانية، كانت تعاملني ببرود قاتل وكنت العب مع اخ اصغر مني.
كنت فارغة البال، اعيش في احلام وردية من دنيا الطفولة البريئة وكبرت.. اصبحت فتاة في السابعة.. وتلك الايام عصفت باحلامي وامنياتي عاصفة الحقيقة!
ذات يوم وعندما كنت اتجول مع احدى الخادمات، أفشت الي بالسرّ الكبير:
ـ هل تعلمين يا مريم! بانك لست ابنة لهذه الأسرة.. لقد كان عمرك عامين عندما جاءوا بك الى هذا البيت وتبنتك الاسرة لأن السيدة لم تكن حتى ذلك الوقت تنجب اطفالاً.
عدت الى البيت وانا ابكي.. ذهبت الى غرفتي مباشرة ولم احيي احداً او اتحدث مع احد!
وداهمتني حمّى رهيبة في تلك الليلة ولزمت فراشي.. تحوّلت الى مخلوقة اخرى انفر من الجميع.. ولم اجرأ على فتح الموضوع مع ابي.
كنت اخشى ان اسمع هذه الحقيقة من فمه فينقطع آخر خيوط الأمل.
اصبحت وحيدة ومنزوية، وكانت آهاتي وحسراتي تتضاعف كل يوم وتنفذ في اعماقي اكثر فأكثر.
وشعر أبي بالقلق ازائي.. كان يحبّني ويعطف عليّ.
واجتاحتني رغبة عارمة في معرفة ابويّ الحقيقيين ولماذا تخلّيا عني.
في المدرسة.. في البيت.. في الشارع.. في كل مكان كانت هذه الافكار تجول في خاطري.. ترى اين يعيشان الآن؟
ورسم خيالي صورة لأمي.. في الشوارع كنت احدّق في وجه كل امرأة تصادفني لعلي اجد وجهاً يشبه الصورة التي رسمها الخيال في اعماقي.
كنت في السنة الأخيرة من الاعدادية عندما طرق بيتنا خاطب. شاب متعلّم من اسرة غنية تخرّج من كلية الهندسة ليؤسس له شركة تجارية معتبرة.
أقيمت حفلة العرس في احد الفنادق الكبرى، وكان الاحتفال كبيراً.. وهكذا انتقلت الى بيت الزوجية دون ان يعلم زوجي بسرّي.
لم اكن ارغب ان يكتشف زوجي سرّ حياتي، من اجل هذا وافقت على ان ادفع مبلغاً من المال مقابل سكوت ذلك الرجل الذي اتصل هاتفياً.
كان الوقت صباحاً وكنت في المطبخ عندما رنّ جرس الهاتف.
وكان على الخط رجل مجهول، قال لي:
ـ اذا اردت ان يبقى سرّك مدفوناً الى الابد.. فعليك ان تحضري، خمسين ألف درهم الى مطعم الصداقة، واتركي المبلغ تحت طاولة الصالة.. وينتهي الموضوع.. لانني لن اتصل بك بعد هذا..
بقيت حائرة مشتتة الفكر.. قرّرت ان ادفع المبلغ، كنت أشعر بالرعب اذا ما عرف زوجي سرّي وطلقنيّ!
فتحت الصندوق.. واخذت خمسين الف درهم.. كانت اول مرّة افعلها وكنت اخشى ان يشعر زوجي بأني اخذت من نقوده.
وضعت المبلغ في جريدة ووضعتها في حقيبتي.. وفي العصر توجهت الى المطعم.. ووشعت المبلغ في المكان المتفق عليه.. وعندما غادرت المطعم لمحت شاباً يرتدي ثياباً رثة.. عبوس الوجه يعبر الشارع متوجهاً الى المطعم .. وكان ينظر اليّ.
عندما عدت الى البيت شعرت أن همّاً ثقيلاً ينزاح عن كاهلي، فأحسست بالهدوء.. ان كل شيء قد انتهى ولم يبق هناك ما يهدّد حياتي الزوجية.
كنت قلقة لو ان زوجي شعر بالمبلغ الذي اخذته.
كنت افكر بسذاجة..
مرّ اسبوع عندما رنّ جرس الهاتف في منتصف الليل .. ولم يكن غير ذلك الشاب المجهول.
قلت له بلهجة غاضبة:
ـ ماذا تريد مني هذه المرة.
قال بلهجة فيها تهديد:
ـ اريد مبلغاً آخر من النقود!
اعدت سماعة الهاتف بعنف وعندما واجهني زوجي بنظرات عجيبة.. قال بلهجة فيها تأنيب:
ـ أشم رائحة خيانة في البيت .. رائحة سرقة ورائحة كذب.. لم يعد لي مكان هنا.
قال هذا وعاد الى غرفته ليرتدي بدلته.. عندما مرّ من أمامي ليخرج، اعترضت طريقه، تعلّقت به، بكيت.. قلت له:
ـ صدقني يا احمد انت مخطىء .. أنا لم اخنك .. وضاعت كلماتي ودموعي.. مرّ اسبوع وانا انتظر.. كنت ابكي ليل نهار.
كلما اتصلت هاتفياً بمنزل والدته كانوا يلتزمون الصمت عندما يتعرّفون على صوتي.
وبقيت اتجرّع مرارة الوحدة بين جدران بيت مترع بالحزن والهمّ واليأس.
وخلال تلك المدّة كان الشاب يتصل كل يوم ويهدّدني.
كان وقت الغروب عندما رنّ جرس الهاتف.. فجأة استعلت فكرة شيطانية في اعماقي: يجب ان اقتل هذا الرجل.. هذا المجهول الذي دمّر سعادتي.
رفعت السماعة وكان على الخط ذلك الشاب، وراح يتهدّدني.. في هذه المرة قلت له:
ـ تعال الى المنزل.. انا وحدي في البيت.. تعال الى هنا لأعطيك المبلغ الذي تريده.
بعدها ذهبت الى المطبخ.. واخذت سكيناً.. ووقفت في البهو انتظر..
الساعة كانت تشير الى الخامسة عصراً.. لقد دنت اللحظة المترقبة!!
طفلى كان نائماً في غرفته.. في الساعة الخامسة وعشر دقائق، سمعت صوت جرس الباب.. وجاء صوت أبي يقول:
ـ افتحي الباب يا عزيزتي.. انا ابوك!
وكانت لحظات مثيرة.. لحظات اللقاء.. ادرك اني في ازمة مدمّرة.. هتف بي:
ـ ماذا حصل؟ ماذا جرى؟
القيت نفسي على صدره الدافىء، انخرطت في بكاء مرير.. قلت له كل شيء.. قلت له انني انتظر هذا الذي دمّر سعادتي وبيتي.. قلت له ان السرّ الذي اخفيته عني قد دمّرني الآن.. قلت له:
ـ أين أبي وأمي؟
ـ ربت الأب على كتفي بحنان ومسح عن اهدابي، قطرات الدموع العالقة وقال:
ـ يجب ان اتصل بزوجك قبل كل شيء.. يجب ان يحضر حالاً لا طلعه على السرّ.
كان ابي يتحدث مع زوجي.. عندما دق جرس الباب.
لقد جاء الشاب.. نعم انه هو الذي رأيته في الشارع المقابل للمطعم.
وعندما وضع الشاب قدمه في البهو.. وكانت عيناه تتأرجحان بشكل جنوني، صاح أبي:
ـ تقدّم ايها اللئيم.
تكوّم الشاب في زاوية فبدا مثل مجرم تعرّض للضرب المبرّح..
لم يتأخر زوجي.. جاء في الوقت المناسب.. وكانت لحظات مثيرة.. هيمن صمت ثقيل كسره ابي:
ـ انه سوء الظن الذي دمّر حياتكم.. اتعرف من كان يتصل بزوجتك هاتفياً؟ انه هذا الشاب الضائع.. الذي طالما احسنت اليه يوم كان يعمل في شركتي.. لقد طردته بسبب خيانته.
هذا المدمن سمع بعض الاشياء عن ابنتي مريم.. لهذا اراد أن يبتزها مقابل السكوت..
ولكنك اسأت الظن في زوجتك!
اني اجد نفسي مضطراً لأن ابوح بسرّ كتمته سنين طويلة.. حتى مريم لا تعرف الحقيقة.. لانها هي الاخرى تظنّ نفسها لقيطة..
ولكن الحقيقة غير ذلك، سوف اروي لكم القصة كلها..
كنت يومها شاباً.. احببت فتاة طيبة .. ولكنها كانت من اسرة فقيرة.. ووقفت امي في طريق الزواج سداً وحاولت المستحيل لتمنعني.. ومع ذلك فقد تزوجت بها.. وكانت ثمرة زواجنا بنتاً اسمها "مريم".. وهي زوجتك هذه.. مريم ابنتي الحقيقية.. ولقد اخطأت في حقها خطاً فادحاً.. ارجو ان تسامحني.. وعندما عرفت امي الحقيقة، اقامت الدنيا ولم تقعدها.. واجبرتني على الطلاق.. ولم تكن مريم سوى طفلة عمرها شهور وهكذا بقيت انا وهذه الطفلة.. كنت افكّر في مستقبلها.. اودعتها في الملجأ.
ولم يكن امامي سوى الزواج من ابنة خالتي.. وكانت حياتنا الزوجية يلفها الصقيع.. كانت عقيماً.. فانتهزت الفرصة وعرضت عليها تبنّي طفلاً يتيماً.
وهكذا ذهبت الى الملجأ وعدت احمل بين ذراعي ابنتي مريم..
لقد آليت على نفسي ان اكتم هذا السرّ لم أبح به لأحد حتى هذه اللحظة.
هذه يا بني زوجتك الطيبة الطاهرة.. لقد ارادت ان تدافع عن امنها وحياتها الزوجية وسعادتها.
لم اتحمل.. اجهشت بالبكاء.. وكان بكاء فرحة كبرى لم يتحملها صدري.. واحتضنت ابي واشبعته قبلات كانت مخزونة في قلبي سنين طويلة.
وتكلم زوجي.. جاءت كلماته هادئة مفعمة بالودّ:
ـ أنا اعتذر الى مريم.. لم يكن ما حصل مهماً.. وحتى لو كانت فتاة من ملجأ.. فهي زوجتي التي اعتزبها.
وفي هذه اللحظة، أدار أبي قرص الهاتف وطلب من الشرطة، الحضور لاعتقال ذلك الخائن الذي اراد تدمير حياتي.

رابط الموضوع

شارك هذا المقال

التعليق 0

رأيك في الموضوع

تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة

من نحــن

مجلة ريحانة الالكترونية تعنى بجميع شؤون المرأة التي تناولها القرآن الكريم والسنة الشريفة. تعمل هذه المجلة تحت مجموعة شبكة رافد للتنمية الثقافية وهي مجموعة ثقافية تحت إشراف مؤسسة آل البيت (عليهم السلام).
علماً بأن عنوان هذه المجلة قد تم اقتباسه من الحديث الشريف عن أمير المؤمنين علي بن أبيطالب (عليه السلام): "المرأة ريحانة وليست بقهرمانة".(نهج البلاغة)

أحدث المقالات

اسألي الفقيه