مجلة ريحانة الالكترونية

حجر النبوة والإمامة.. فاطمة بنت اسد عليها السلام

 (وحجور طابت وطهرت)؛ جملة قالها الإمام الحسين عليه السلام في وصف الأمهات الطاهرات اللواتي أنجبنه وآبائه عليهم السلام،

جمله اختزلت ثقافة واسعة، وحقيقة لا تقبل الخطأ حول تأثير الأم على الأبناء؛ فهناك أمهات يصنعن الأبطال والعظماء، وهناك أمهات ينجبن المجرمين والطغاة  .

عندما يدور الكلام حول السيدة الجليلة (فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف) سليلة بيت المجد والشرف، البيت الهاشمي العريق، وزوجة سيد قريش ومؤمنها أبي طالب عليه السلام  لا نملك أنفسنا دون أن ننحني لشخصيتها البارعة إجلالا وتوقيرا؛ كيف لا وهي المرأة التي ربّت واحتضنت سيد الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وآله برعايتها وحنانها وهو طفل، وأنجبت سيد الأوصياء أمير المؤمنين عليه السلام  .

 

بداية الكفالة...

وشائج العلاقة بين السيدة فاطمة ورسول الله صلى الله عليه وآله لم تبدأ من حين دخوله بيتها طفلا لتحتضنه وترعاه، بل هي أقدم من ذلك، فقد حضرت ولادته الميمونة، واستبشرت بمحيّاه الشريف، وبشّرت بدورها عمه أبا طالب، فعن محمد المفضل بن عمر: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: " لما ولد رسول الله صلى الله عليه وآله فُتِحَ لآمنة بياض فارس وقصور الشام فجاءت فاطمة بنت أسد إلى أبي طالب ضاحكة مستبشرة فأعلمته ما قالته آمنة فقال لها أبو طالب: وتتعجبين من هذا انك تحبلين وتلدين بوصيه ووزيره "، وفي رواية ابن مسكان فقال لها أبو طالب: " اصبري لي سبتا آتيك بمثله إلا النبوة "، والسبت ثلاثون سنة  .

ثم تروي لنا قصة كفالتها للنبي صلى الله عليه وآله منذ كان طفلا في الثامنة من عمره فتقول: أنه لما ظهرت أمارة وفاة عبد المطلب قال لأبي طالب: (يا بني قد علمت شدة حبي لمحمد ووجدي به، أنظر كيف تحفظني فيه، قال أبو طالب: يا أبه لا توصني بمحمد فإنه ابني وابن أخي)، فلما توفي عبد المطلب، كان أبو طالب يؤثره بالنفقة والكسوة على نفسه، وعلى جميع أهله.

لقد أحسن أبو طلب الكفالة للنبي صلى الله عليه وآله، وبالغ فيها، وشاركت  السيدة فاطمة في احتضانه والعناية به، ولم يفارق بيتها الدافئ بالحنان والرحمة إلا عند انتقاله إلى بيت الزوجية، وحفظ صلى الله عليه وآله جميلها، وكان شاكرا لبرّها طوال حياته، وقد وصف عنايتها ورعايتها له عندما قال لعلي عليه السلام وهو ينعاها له بقوله: " توفيت والدتي يا رسول الله، فقال صلى الله عليه وآله  : بل والدتي يا علي فقد كانت تجوع أولادها وتشبعني، وتشعث أولادها وتدهنني، والله لقد كانت في دار أبي طالب نخلة، وكانت تسابق إليها من الغداة، لتلتقط ما يقع منها في الليل، وكانت تأمر جاريتها فتلتقط ما يقع من الغلس (آخر الليل)، ثم تجنيه رضي الله عنها، فإذا خرج بنو عمي، تناولني ذلك، ووقف باكيا  عند قبرها وقال: (رحمك الله من أم كنت خير أم)، وقال في الثناء عليها أيضا  : (إنها كانت أحسن خلق الله صنعاً بي بعد أبي طالب)  .

وعندما بُعث بالنبوة كانت من السابقين للإيمان به، ففي قول لأمير المؤمنين عليه السلام أنها أسلمت بعد عشر من المسلمين  ، وهي أول امرأة بايعته بمكة بعد خديجة عليها السلام، وعن  ابن عباس: فيها نزلت:   ( (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءكَ المُؤْمِنَاتُ بَايِعْنَكَ)) (الممتحنة ـ 12)، وهاجرت معه في المهاجرين،  وكان رسول الله  صلى الله عليه وآله  يزورها، ويقيل في بيتها ولازمته ولم تفارقه إلى آخر أيام حياتها   .

 

الولادة المعجزة...

تعتبر شخصية الإمام علي عليه معجزة البشرية من جوانبها جميعا، حتى ولادته تميزت عن ولادات سائر البشر؛ فقد خصّه الله بمكان يولد به لم يتكرر لمولود قبله أو بعده،  في بيته العتيق، بل في جوف الكعبة المقدسة، ولنسمع حديث ولادته من شاهد عيان على تلك الحادثة الاستثنائية، قال يزيد بن قعنب: كنت جالسا مع العباس بن عبد المطلب وفريق من بني عبد العزى بإزاء بيت الله الحرام إذ أقبلت فاطمة بنت أسد عليها السلام، وكانت حاملة لتسعة أشهر، وقد أخذها الطلق، فقالت: " رب إني مؤمنة بك، وبما جاء من عندك من رسل وكتب، وإني مصدقة بكلام جدي إبراهيم الخليل عليه السلام، وأنه بنى البيت العتيق، فبحق الذي بنى هذا البيت العتيق، وبحق المولود الذي في بطني لما يسرت عليّ ولادتي "، قال يزيد بن قعنب: فرأينا البيت قد انفتح عن ظهره، ودخلت فاطمة فيه، وغابت عن أبصارنا، والتصق الحائط، فرمنا أن ينفتح لنا قفل الباب فلم ينفتح، فعلمنا أن ذلك أمر من الله تعالى، ثم خرجت بعد الرابع، وبيدها علي بن أبي طالب صلوات الله عليه، ثم قالت: " إني فضلت على من تقدمني من النساء، لأن آسية بنت مزاحم امرأة فرعون عبدت الله سرا في موضع لا يحب أن يعبد الله فيه إلا اضطرارا  وإن مريم بنت عمران هزت النخلة اليابسة بيدها حتى أكلت منها رطبا  جنيا، وإني دخلت بيت الله الحرام، وأكلت من ثمار الجنة وأرزاقها، فلما أردت أن أخرج هتف بي هاتف: يا فاطمة، سميه عليا وهو علي، والله تعالى العلي الأعلى، يقول: إني شققت اسمه من اسمي، وأدبته بأدبي، ووقفته على غوامض علمي، وهو الذي يؤذن فوق ظهر بيتي، ويقدسني، ويمجدني، فطوبى لمن أحبه وأطاعه، وويل لمن أبغضه وعصاه ".

 

نعم يحق لفاطمة بنت أسد أن تفخر على سائر نساء العالمين بما خصّها الله تعالى من منقبة لم يسبق لها أحد  .

 

هجرتها إلى المدينة  ...

عندما هاجر النبي صلى الله عليه وآله إلى المدينة المنورة وقبل ان يدخلها حطَّ الرحال في قبا، ومن هناك بعث كتابا إلى علي عليه السلام يأمره بالمسير إليه  ، فتجهّز للخروج والهجرة، وأمر من كان معه من ضعفاء المؤمنين، أن يتسللوا ويتخفوا تحت جنح الليل إلى وادي ذي طوى، وخرج عليه السلام بركب الفواطم وهنَّ: بفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله، وأمه فاطمة بنت أسد، وفاطمة بنت الزبير بن عبد المطلب، وفاطمة بنت حمزة، وتبعهم أيمن ابن أم أيمن مولى رسول الله صلى الله عليه وآله  ، وأبو واقد الذي كان يسوق الرواحل بشدة وسرعة خوفا من ان يلحقهم الأعداء  فأمره علي عليه السلام  بالرفق وطمأنه قائلا: (إربع عليك، فإن رسول الله قال لي: يا علي أما إنهم لن يصلوا من الآن إليك بأمر تكرهه)، وأخذ عليه السلام يسوق الركب بنفسه حتّى نزل في مكان يسمى (ضجنان)، فلبثوا به  يوما وليلة، وقضوا ليلتهم يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم حتى طلع الفجر، فصلى بهم علي عليه السلام صلاة الفجر وسار ميمما وجهه نحو المدينة وفي هذا الركب المبارك المهاجر في سبيل الله نزل قوله: ( (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ والأَرْضِ واخْتِلافِ اللَّيْلِ والنَّهارِ لآياتٍ لأُولِي الأَلْبابِ.... إلى قوله واللَّه عِنْدَه حُسْنُ الثَّوابِ)) (آل عمران 190- 195 ( .

 

في المدينة المنورة  ...

وبقيت السيدة فاطمة عليها السلام ملازمة ولديها النبي صلى الله عليه وآله، والإمام علي عليه السلام، ويبدو من بعض الروايات انها كانت تسكن في بيت الإمام علي عليه السلام، وتشارك السيدة فاطمة الزهراء المسؤوليات المنزلية حيث ورد عن الإمام عليه السلام قوله لها: (إكف فاطمة بنت رسول الله  صلى الله عليه وآله  سقاية الماء، وتكفيك الطحن والعجن)، إلى أن وافتها المنية، وحينما حضرتها الوفاة أوصت إلى النبي  صلى الله عليه وآله فقبل وصيتها، وكانت وفاتها في السنة الرابعة من الهجرة فقام صلى الله عليه وآله بتجهيزها بنفسه، وكفنها بقميصه، وكان في حال تشييع جنازتها يرفع قدما، ويتأنى في رفع الأخرى، وهو حافي القدم، فلما صلى عليها، كبر سبعين تكبيرة، ثم لحدها في قبرها بيده الكريمة، بعد أن نام في قبرها، ولقنها الشهادتين، فلما أُهُيل عليها التراب، وأراد الناس الانصراف، جعل صلى الله عليه وآله يقول لها: ابنك، ابنك، لا جعفر، ولا عقيل... فقالوا: يا رسول الله، فعلت فعلا ما رأينا مثله قط مشيك حافي القدم، وكبرت سبعين تكبيرة، ونومك في لحدها، وقميصك عليها، وقولك لها: ابنك، ابنك لا جعفر، ولا عقيل، فقال صلى الله عليه وآله: فأما التأنّي في وضع أقدامي ورفعها في حال تشييع الجنازة، فلكثرة ازدحام الملائكة، وأما تكبيري سبعين تكبيرة، فإنها صلى عليها سبعون صفا من الملائكة، وأما نومي في لحدها، فإني ذكرت لها في أيام حياتها ضغطة القبر، فقالت: وا ضعفاه، فنمت في لحدها لأجل ذلك، حتى كفيتها ذلك، وأما تكفينها بقميصي فإني ذكرت لها حشر الناس عراة، فقالت: وا سوأتاه، فكفنتها به لتقوم يوم القيامة مستورة، وأما قولي لها: ابنك ابنك لا جعفر ولا عقيل، فإنها لما نزل عليها الملكان وسألاها عن ربها فقالت: الله ربي، فقالا لها من نبيك؟ فقالت: محمد نبيي، فقالا لها: من وليك وإمامك؟ فاستحيت أن تقول: ولدي، فقلت لها: قولي ابنك علي بن أبي طالب عليه السلام، فأقر الله بذلك عينها  .

وعند السمهودي: أن قبرها حفر في موضع المسجد الذي يقال له اليوم قبر فاطمة، ودفنت رحمها الله تعالى في البقيع، ودفن الحسن عليه السلام عندها كما نص عليه المفيد وغيره  .

بعد هذه الحياة الحافلة بالمكرمات، وبعد أن طوت صفحتها النورانية البيضاء ورحلت عن الدنيا تاركة ذرية طيبة طاهرة هي أشرف من خلق الله واصطفى، نقف مبهورين  أمام جمال هذه السيدة وجلالها، فلا نملك إلا ان نهنئها بما أكرمها الله وحباها، ونسلم عليها وهي ترقد قريرة العين في بقيع الغرقد قائلين: ( (السَّلامُ عَلى فاطِمَةَ بِنْتِ أَسَدٍ الهاشِمِيَّةِ، السَّلامُ عَلَيْكِ أَيَّتُها الصِدِّيقَةُ المَرْضِيَّةُ، السَّلامُ عَلَيْكِ أَيَّتُها التَّقِيَّةُ النَّقِيَّةُ، السَّلامُ عَلَيْكِ أَيَّتُها الكَرِيمَةُ الرَّضِيَّةُ، السَّلامُ عَلَيْكَ يا كافِلَةَ مُحَمَّدٍ خاتَمِ النَّبِيِّينَ، السَّلامُ عَلَيْكِ يا والِدَةَ سَيِّدِ الوَصِيِّينَ، السَّلامُ عَلَيْكِ يا مَنْ ظَهَرَتْ شَفقَتُها عَلى رَسُولِ الله خاتَمِ النَّبِيِّينَ، السَّلامُ عَلَيْكِ يا مَنْ تَرْبِيَتُها لِوَلِيِّ اللهِ الأمِينِ، السَّلامُ عَلَيْكِ وَعَلى رُوحِكِ وَبَدَنِكِ الطَّاهِرِ، السَّلامُ عَلَيْكِ وَعَلى وَلَدِكِ وَرَحْمَةَ الله وَبَرَكاتُهُ)).

 

المصادر:

ـــ          القرآن الكريم

ـــ          الاختصاص / الشيخ المفيد

ـــ          الثاقب في المناقب / ابن حمزة الطوسي

ـــ          مناقب آل ابي طالب / ابن شهر آشوب

ـــ          الروضة في فضائل أمير المؤمنين / ابن شادان

ـــ          موسوعة التاريخ الإسلامي / الشيخ محمد هادي اليوسفي    

ـــ          الصحيح في سيرة النبي الأعظم / السيد جعفر مرتضى العاملي

ـــ          تفسير الأمثل / الشيخ ناصر مكارم الشيرازي

ـــ          مفاتيح الجنان / الشيخ عباس القمي

 

شارك هذا المقال

التعليق 0

رأيك في الموضوع

تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة

من نحــن

مجلة ريحانة الالكترونية تعنى بجميع شؤون المرأة التي تناولها القرآن الكريم والسنة الشريفة. تعمل هذه المجلة تحت مجموعة شبكة رافد للتنمية الثقافية وهي مجموعة ثقافية تحت إشراف مؤسسة آل البيت (عليهم السلام).
علماً بأن عنوان هذه المجلة قد تم اقتباسه من الحديث الشريف عن أمير المؤمنين علي بن أبيطالب (عليه السلام): "المرأة ريحانة وليست بقهرمانة".(نهج البلاغة)

أحدث المقالات

اسألي الفقيه