مجلة ريحانة الالكترونية

العلاقات الاجتماعية الدافئة

 

لماذا فقدت المجتمعات الإسلامية ميزة التواصل؟
انشغالات الناس و اهتماماتهم تشعبت بعكس ما كان الناس في الماضي

.
للمجتمع تطلعات و أهداف مشتركة تحتاج إلى تعاون و تواصل لتحقيقها .
دراسة اجتماعية قيمة تكشف أسباب الكثير من المشاكل الفردية و الاجتماعية التي تعاني منها مجتمعاتنا ، كما و تبين هذه الدراسة الحلول الكفيلة لمعالجة هذه المشاكل ، و هذه الدراسة القيمة هي لسماحة العلامة الشيخ حسن الصفار ( حفظه الله ) .
هناك صلة وثيقة بين مستوى ارتباط الإنسان بمحيطه الاجتماعي ، و بين استقامة السلوك و درجة الفاعلية و الإنتاج . فكلما كانت علاقة الإنسان بمجتمعه وثيقة دافئة ، كان اقرب إلى الاستقامة و الصلاح في سلوكه و سيرته ، و أكثر اندفاعاً للفاعلية و الإنتاج . بينما يساعد الفتور و البرود في العلاقات الاجتماعية على ظهور و نمو السلوكيات المنحرفة الخاطئة .
و قد تحدث بعض المفكرين و الباحثين الغربيين عن تأثير ضعف العلاقة في مجتمعاتهم بين الفرد و محيطه الاجتماعي ، في بروز الظواهر السلبية و الإجرامية . كمرض الاكتئاب ، و الشعور بالإحباط ، و شدة القلق ، و سائر الأمراض النفسية ، و كذلك ظاهرة الانتحار التي يتسع مداها في المجتمعات الغربية المعاصرة . مع كل ما يتوافر للإنسان هناك من وسائل الراحة و الرفاه المادي .
إن بلداً مثل سويسرا التي تحظى بمركز متقدم في الاقتصاد و التقنية و مستوى المعيشة و التعليم ، هي من بين أكثر الدول التي تنتشر فيها حالات الانتحار لا سيما بين الشباب .
و طبقاً لبيانات المكتب الفيدرالي السويسري للإحصاء يقدم نحو 1300 شخص سنوياً على الانتحار ، 900 منهم رجال ، و البقية نساء ، أي بمعدل 4 حالات في اليوم ، و هو معدل يثير القلق في بلد ينعم بالرفاه و الاستقرار السياسي ، و يصل عدد سكانه إلى نحو 5,7 مليون نسمة .
و قد وضع عالم الاجتماع الفرنسي ( اميل دوركايم 1858-1917م ) تفسيرين لمشكلة الانتحار يؤولان إلى ذات الجذر و هو تأثير المحيط الاجتماعي .
يتحدث التفسير الأول منهما عن علاقة وثيقة بين الانتحار و عدم القدرة على التكيف الاجتماعي ، و ذلك عندما تفقد المجتمعات المعايير و القيم التي تدعو إلى الترابط و التماسك ، فكلما ضعفت تلك القيم ازداد الشعور بالانفراد و العزلة و حب الذات ، فترتفع احتمالات إقدام الفرد على الانتحار عند تعرضه لأي أزمة ، إذ يعتقد الفرد في هذه الحالة أنه صاحب القرار .
أما التفسير الثاني فيربط بين الانتحار و المتغيرات السريعة التي تمر بها المجتمعات ، و عدم قدرة الشخص على التكيف معها ، مثل الفشل في العثور على عمل ، أو عدم تحقيق الأحلام و الأمنيات المتعلقة بمستقبل أفضل .
و قد درس ( دوركايم ) آلاف حالات الانتحار ليثبت مصداقية نظريته التي شرحها في كتابه ( الانتحار ) .
و يؤكد باحثون غربيون على عدم قدرة المجتمعات الأوربية على إيجاد روابط بين الناس تتماشى مع سرعة التحولات التي تمر بها ، ليس من الناحية الاقتصادية فحسب ، بل أيضاً على صعيد العلاقات الأسرية و الشخصية ، فيحدث نوع من الانفصال بين الشخص و المجتمع ، و لا يعود يجد رابطاً بينه و بين الآخرين ، ثم يشعر و كأنه غريب و معزول . 1
إن مجتمعاتنا الإسلامية و التي كانت تتمتع بدرجة عالية من الاستقرار و التماسك الاجتماعي ، و كانت تحتضن أبناءها بدفء و اهتمام ، أصبحت هي الأخرى مهددة بفقد هذه الميزة العظيمة ، بسبب التحولات الاقتصادية و الثقافية التي لم يواكبها تأهيل قيمي ، و تطوير في أساليب و برامج الترابط الأسري و الاجتماعي .
ما يجري في مجتمعاتنا يجب أن يثير القلق البالغ على المستقبل .
و بدأنا نعاني مما تعاني منه المجتمعات الغربية من تفكك أسري ، و أمراض نفسية ، و حالات إجرام ، و حوادث انتحار .
إن ما يجري الآن في مجتمعاتنا يجب أن يثير القلق البالغ في نفوسنا على مستقبل المجتمع ، و خاصة أجياله الشابة الصاعدة ، و أن يدفعنا للتفكير و العمل لمواجهة هذا المشكل الاجتماعي الخطير .
و ذلك بدراسة و بحث واقع الترابط الاجتماعي ، و وضع البرامج و المعالجات لتطويره و رفع مستواه بما يتناسب مع قيم ديننا الحنيف ، و الأوضاع الاقتصادية و الثقافية المستجدة .
مستوى العلاقات الاجتماعية

طبيعة حياة الإنسان البشرية تفرض عليه التواصل مع المجتمع الذي يعيش فيه .
أولاً : لأن الإنسان يأنس بأبناء جنسه ، و لا يستطيع أن يعيش من دونهم ، أو بعيداً عنهم . و قد ذكر بعض اللّغويين : أن كلمة إنسان مشتقة من الأنس ، على اعتبار أن الإنسان يأنس بمثله . و لو أنك وفّرت لإنسان كل ما يحتاجه في حياته المادية ، و عزلته عن الناس ، فإن ذلك بالتأكيد لن يريحه ، و لهذا فإن السجن الانفرادي هو من أقسى أنواع العقوبات .
فالإنسان بطبيعته يميل إلى أبناء جنسه و يأنس بهم ، لديه دافع طبيعي فطري للتواصل مع الناس .
ثانياً : حاجات الإنسان الحياتية تفرض عليه أن يتواصل مع الآخرين ، فهو لا يستطيع أن يوفّر كل حاجاته بنفسه ، فقد يمرض فيحتاج إلى الطبيب ، و هو بحاجة إلى العامل في البناء و غيره ، و هو يشتري من السوق ، و يبيع إنتاجه ، و قد يعمل لدى أحد ، أو يعمل لديه أحد ، و بالتالي فإن طبيعة الحياة تجعل المصالح مشتركة ، و الحاجات متداخلة بين الناس ، و هذا يفرض على الإنسان حالة التواصل مع محيطه الاجتماعي .
لكن هذا التواصل يبقى في مستواه الأدنى ، و في حالته البسيطة الساذجة . إذ أن المجتمع يحتاج إلى نوع من التواصل بشكلٍ أرقى ، و هذا يختلف من مجتمع إلى آخر .
و قد كنا نعيش تواصلاً مكثفاً في مجتمعنا ، حينما كانت الحياة على بساطتها ، و كان الناس يعيشون في مناطق جغرافية محدودة ، و ضمن اهتمامات بسيطة ، لكننا الآن ، و مع التطور الذي حصل على واقع حياتنا ، لم نعد نعيش درجة التواصل الاجتماعي السابقة . و لعلّ من أبرز الأسباب :
ـ انتشار الناس جغرافياً ، فما عاد الإنسان مقيماً في نفس الحي الذي نشأ فيه .
ـ انشغالات الناس و اهتماماتهم تشعبت في هذا العصر ، بعكس ما كانت عليه حياتهم في الماضي ، إذ أنهم كانوا بمجرد أن يحلّ الظلام تنتهي جميع أعمالهم و يُصبح الوقت متاحاً للتواصل ، و حتى في النهار فإن دائرة الاهتمامات عندهم كانت محدودة . أما في زمننا المعاصر فقد انشغل الإنسان باهتمامات مختلفة ، معرفية و عملية ، مما قلل من حصة العلاقات الاجتماعية .
ـ انخفاض الروح الاجتماعية عند أكثر الناس لصالح الاهتمام الفردي ، حيث أصبح كل واحدٍ مشغولاً بنفسه ، و في بعض الأحيان حتى عن عائلته و أسرته .
هذه الاهتمامات بعضها صحيح و بعضها غير صحيح ، لكنها أصبحت على حساب التوجه الاجتماعي ، و إن كنا مازلنا نحتفظ بدرجة من التواصل ، هو في الغالب تواصل مناسباتي شكلي ، كمناسبة الزواج و مناسبة العزاء . و ما نحتاج إليه هو التفكير في التواصل ذي المضمون .
مضامين التواصل الاجتماعي

و أشير هنا إلى أبرز مضامين التواصل الاجتماعي المطلوب :
أولاً ـ التقارب النفسي الروحي .
الحياة بطبيعتها فيها ضغوط و مشاكل ، خصوصاً في هذا العصر ، فيحتاج الإنسان إلى من يتضامن معه نفسياً ، و إلى من يقترب منه روحياً ، ليخفف عنه الآلام ، و يرفع من معنوياته . و يحتاج الإنسان إلى من يستشيره ليستفيد من رأيه . و تُشير النصوص إلى هذا المضمون ، و تُعبّر عنه بإدخال السرور إلى قلب الأخ المؤمن ، ورد عن رسول الله ( صلى الله عليه و آله ) أنه قال: « من لقي أخاه بما يسره سرّه الله يوم القيامة » ، و عنه ( صلى الله عليه و آله ) : « من أحب الأعمال إلى الله ادخال السرور على المسلم أو أن تفرج عنه غماً أو تقضي عنه ديناً أو تطعمه من جوع » ، و عن الإمام جعفر الصادق ( عليه السلام ) أنه قال: « من سرّ مسلماً سره الله يوم القيامة » ، و عنه قال : « لا يرى أحدكم إذا أدخل على مؤمن سروراً أنه عليه أدخله فقط ، بل والله علينا ، بل والله على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) » .
الروح الاجتماعية عند الكثير من الناس انخفضت لصالح الاهتمام الفردي .

ثانياً ـ التعاون في تيسير شؤون الحياة .
كل مجتمع يواجه مشاكل ، و لكل قوم في منطقتهم احتياجات ، و لا يستطيع الإنسان بمفرده أن يحلّها و يعالجها ، إنما يحتاج أن يتعاون مع الآخرين . و كمثال تقريبي : تربية الأبناء في العصر الحاضر عملية شاقّة ، إذا أراد الأب أو الأم وحدهما القيام بهذا الدور ، و لكن عندما تكون هناك برامج و لجان تخلق الأجواء الصالحة ، و تسعى من أجل بناء الجيل الجديد بناءً سليماً ، فهذا يقدم أكبر عون للأسرة على تربية أبنائها . و يؤكد القرآن الكريم على هذا المضمون في قوله تعالى : ﴿ ... وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى ... ﴾ 2 .
ثالثاً ـ خدمه الأهداف المشتركة .
للمجتمع تطلعات و أهداف مشتركة ، دينية أو سياسية أو اجتماعية . هذه الأهداف المشتركة تحتاج إلى تعاون و تواصل يساعد على تحقيقها . و الإمام علي ( عليه السلام ) يُوصي بهذا المضمون في آخر وصيةٍ له ، فيقول : « و عَلَيْكُمْ بِالتَّوَاصُلِ و التَّبَاذُلِ و إِيَّاكُمْ و التَّدَابُرَ و التَّقَاطُعَ » ، و التباذل هنا بمعنى البذل و العطاء .
التأكيد الديني على التواصل

التواصل بين الناس محور أساسي في التعاليم و التوجيهات الإسلامية ، حيث يذم الإسلام الرهبنة و العزلة ، و يدعو إلى أن يتعرف الناس على بعضهم بعضا يقول تعالى: ﴿ ... وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ... ﴾ 3 ، و يجعل خدمة الناس و نفعهم من أفضل وسائل التقرب إلى الله تعالى ، كما ورد عنه ( عليه السلام ) : « خير الناس انفعهم للناس » .
و إذا كان التواصل الاجتماعي محبوباً عند الله تعالى و مطلوباً في كل وقت و آن ، فان هناك ما يدل على خصوصية ليوم الجمعة في هذا المجال ، فهو يوم يفرغ فيه الإنسان لما انشغل عنه أيام الاسبوع .
إن ساعات يوم الجمعة غالية ثمينة ، و حينما يأتي التوجيه الديني بصرف بعضها في التواصل الاجتماعي ، فهذا دليل على أهمية هذا الجانب ، و أنه يستحق أن تصرف فيه أغلى الأوقات .
و حسب تأكيدات النصوص الدينية فان أبواب قبول الأعمال عند الله مشرعة يوم الجمعة أكثر من أي يوم آخر ، و ثواب الأعمال فيه مضاعف ، لذلك فإن أجر التواصل الاجتماعي فيه عظيم كبير .4

    1. أبو العينين : تامر/ الوحدة تقتل السويسريين / جريدة الحياة 21/4/2008م
    2. القران الكريم : سورة المائدة ( 5 ) ، الآية : 2 ، الصفحة : 106 .
    3. القران الكريم : سورة الحجرات ( 49 ) ، الآية : 13 ، الصفحة : 517 .
    4. « جريدة الوطن القطرية » - 4 / 5 / 2008م ـ العدد 4626 .

رابط الموضوع

شارك هذا المقال

التعليق 0

رأيك في الموضوع

تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة

من نحــن

مجلة ريحانة الالكترونية تعنى بجميع شؤون المرأة التي تناولها القرآن الكريم والسنة الشريفة. تعمل هذه المجلة تحت مجموعة شبكة رافد للتنمية الثقافية وهي مجموعة ثقافية تحت إشراف مؤسسة آل البيت (عليهم السلام).
علماً بأن عنوان هذه المجلة قد تم اقتباسه من الحديث الشريف عن أمير المؤمنين علي بن أبيطالب (عليه السلام): "المرأة ريحانة وليست بقهرمانة".(نهج البلاغة)

أحدث المقالات

اسألي الفقيه